الكاتب : أ.د محمد احمد بصنوي .
لم يعد خافيًا على أحد، أن العالم يشهد تحولًا جذريًا في تقديم الخدمات المصرفية، حيث تكتسب المدفوعات الرقمية زخمًا غير مسبوق، وأصبح يُنظر إلى المدفوعات الرقمية كعلامة من علامات التقدم التكنولوجي والاقتصادي، حيث تُسهل المعاملات التجارية، وتزيد من الكفاءة والشفافية، و في هذا الإطار تبنت الدول العربية، هذه التقنيات بحماس كبير، سعيًا نحو اللحاق بركب التقدم في تقديم الخدمات المصرفية المختلفة.
إلا أن هذا المسار المُتسارع نحو تبني نظم المدفوعات الرقمية، يطرح تساؤلات جوهرية حول تأثيره على الأمن القومي والإستقرار الاقتصادي، وهو ما يحول هذا "التقدم" المُحتمل إلى معضلة حقيقية، فقبيل وأثناء الغزو الروسي لأوكرانيا، تعرضت البنوك والمؤسسات المالية الأوكرانية لسلسلة من الهجمات السيبرانية المكثفة، لتعطيل الخدمات المصرفية الإلكترونية وأنظمة الدفع، مما أثر بشكل كبير على قدرة المواطنين على الوصول إلى أموالهم، وإجراء المعاملات اليومية في ظل الظروف الصعبة، وهذا الحادث يُوضح مدى هشاشة الأنظمة الرقمية في أوقات الأزمات والحروب.
ونظرًا لما تعرضت له أوكرانيا من هجمات سيبرانية، لإستهداف أنظمة الدفع الإلكترونية الرقمية بصورة كاملة، أعلنت السويد التراجع عن خطط إنشاء مجتمع خالي من النقد، رغم أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة جدًا في الشمول المالي، ففي عام 2023، تشير إحصائيات البنك المركزي السويدي إلى أن أقل من 5% من قيمة المعاملات التجارية تتم نقدًا، بينما تستحوذ البطاقات وتطبيقات الدفع عبر الهاتف المحمول مثل "سويش" على النسبة الأكبر، ومع ذلك، بدأت تلوح في الأفق مخاطر جدية لهذا الإعتماد شبه الكامل على الأنظمة الرقمية، ففي ظل الصراعات الجيوسياسية والتهديدات السيبرانية المتزايدة، يصبح الإعتماد الكلي على البنية التحتية الرقمية نقطة ضعف استراتيجية، فالهجمات الإلكترونية على البنوك وأنظمة الدفع، والتي أصبحت أكثر تطورًا وتكرارًا، يمكن أن تشل قطاعات اقتصادية حيوية وتُثير حالة من الفوضى وعدم الثقة.
ولكن البعض قد ينتقد هذا الكلام، ويتحدث بأن هذه المخاوف ليست مبررة، خاصة وأن الكثير من الدول تستخدم هذه النظم بدون أي مشاكل أو ازمات، ولا يجب القياس على دولة ما تواجه حربًا مع قوى عظمى، ولكن هذا الكلام ليس صحيحًا، فمخاطر الإعتماد الكلي على المدفوعات الرقمية، لا تتعلق فقط بأوقات الحروب أو الهجمات السيبرانية، ففي 2022 واجهت شركة الاتصالات الكندية "Rogers" انقطاعًا واسع النطاق، أثر سلبًا على أكثر من 12 مليون مستخدم ، وتسبب ذلك في توقف العديد من الخدمات الأساسية، بما في ذلك خدمات الدفع الإلكتروني، ووجد تجار التجزئة الذين يعتمدون بشكل كامل على هذه الأنظمة أنفسهم غير قادرين على إتمام المبيعات، مما أحدث شللاً كاملاً في البلاد، وأحدث خسائر اقتصادية كبيرة، وأثار تساؤلات حول كيفية التعامل مع مدى مثل هذه الانقطاعات.
المخاطر لا تتوقف عند هذا الحد، بل يُمكن للدول الكبرى أن تشل الدول النامية أو الناشئة اقتصاديًا، من خلال وقف خدمات المدفوعات الرقمية، خاصة وأن أغلب هذه التطبيقات، إن لم يكن جميعها غربية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقدم شركة "فيزا" الأمريكية خدمات بطاقة الدفع الإلكرتونية في أكثر من 200 دولة، أي العالم أجمع تقريبًا، بمعنى آخر أن الولايات المتحدة قادرة على شل العالم اقتصاديًا، حال الإعتماد الكلي على الشمول المالي، أو نظم الدفع الالكترونية، من خلال ضغطة زر واحدة ، بدون حروب أو أي شيء آخر.
لست بالطبع رجعيًا، أو أدعو إلى التخلف، وعدم مواكبة الدول اقتصاديًا، أو التطور الذي يحدث في الخدمات المصرفية حول العالم، ولكني أدعو إلى التأمل فيما يحدث حول العالم، والتعلم من الأخطاء التي حدثت في بعض الدول، فالسويد والنرويج، بدأتا في اتخاذ خطوات للحفاظ على دور النقد، وتشجيع المواطنين على الإحتفاظ بكميات منه تحسبًا لأي طارئ، ففي النرويج، صدر تشريعًا جديدًا يُلزم الشركات بتقديم خيارات الدفع النقدي لمبالغ تصل إلى 20,000 كرونة أي 1,670 يورو، اعتبارًا من 1 أكتوبر 2024 ، ويأتي هذا التشريع أو القانون كإعتراف ضمني بأهمية استخدام النقد تحسبًا لأوقات الأزمات، وضعف الأنظمة الرقمية، أمام الهجمات الإلكترونية.
وأخيرًا وليس آخرًا، فلا يمكن إنكار المزايا المتعددة للمدفوعات الرقمية في تسهيل الحياة اليومية وتعزيز الكفاءة الاقتصادية للدول، إلا أن الإعتماد بشكل مُفرط على هذه النظم، بدون وجود بدائل قوية ومرنة، مثل النقد، يمكن أن يُحول هذه النظم من علامة للتقدم، إلى نقطة ضعف تُهدد الأمن القومي والإستقرار الاقتصادي، ولذلك فمن الضروري إيجاد نوعًا من التوازن بين تبني التكنولوجيا الرقمية، والحفاظ على وسائل دفع تقليدية آمنة ومتاحة للجميع، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يُواجه الدول نحو تحقيق مستقبل مالي آمن ومُستدام.