الوُجُوم .
الكاتب / د - صلاح عبدالله العرابي
حنين نهض من خاصرة النهر حينما أطل ذلك الفجر بحنجرته الباردة على دربها برداءٍ جرارٍ تكسرت أضلعها على ذلك الوهم الضرير وذاكرتها لازالت تحاول أن تصد الفلق وتسحب قناديل خطواته لتخيط الشوق في عباءة ذلك الأدهم الذي يطيب لها أن تكون في زمنه حاضراً كعقدٍ من الفل مدثَّراً بالعبير. وهي كما هي فاتنةٌ كالبدر تسافر عبر نعاس الليل لترسم المأوى على ظل اليقين ، لتُذِيب أغنية الشتاء وهي تبحث عن إناء لزهور ظامئات في التيه ونزوات الحنين. فقد أوصدت تلك الرؤى المشعة بشفافية متناهية على حيرتها وصدرت منها بشكل مراهق قهقهات ذات دوائر مفرغة ولكنها مفزعة إلى درجة حادة من الإنحدار الذي كانت زواياه معتمة في كل ركنٍ وصوب وانسابت غبطتها الدافئة على وميض نور لم يرحل بعيدا ً عن ليلها المعتق فقد انبهر من اشراقة فجره فغدا رداءه متسربلاً بفراغ الرمل الباهت عند عنق فلقه. رقصات ذلك الوهج الغجري زاري وبأضلاع منفرجة خرجت خطوط ظله من عالم اللاوعي ومن حدود مثلث زجاجي قديم سقط لتوِّه من يد طفل عابث. دارت حول غديرها عدة مرات لتبحث عن ردائه وعبثاً كانت تحاول فأعواد ثقابها أضحت مبللة ورطبة. تمالكت خطواتها وهي شبه حائرة وأعطت لأعينها مجالاً رحباً لتنظر من تلك النافذة الخشبية المطرزة بأعواد الخيزران فقد كان المطر الصيفي منهمراً بغزارة خارج حدود إرادتها.. كان كل شيء جميلاً بحزن أمام إبتسامتها القديمة وبينما هي كذلك تسرب الهدوء بشجن إلى مخيلتها ووقفت وهي منكفئة على أعصابها لتمتد أناملها الطويلة وترسم بما انهال على تلك الوجنتين الشاحبتين من ماء مر فيه شهوة الملح رفضته أعينها المنهارة على تلك الياقوتة من ذلك الزجاج الفيروزي الذي يعلو صفحة وجهه زرقة سماوية نادرة وبينما هي كذلك حاولت ثوانيه أن تتثاءب بغيض علها تجد متسعاً لها في بحر دقائقها لتلقي نظرة الوداع عليها وهي تردد مارسمته شفتيها من كلمات.. سحب ثوانيه قبل أن تفلت منه ودقت دقائقه على أمل رحيله فحزم بصمت هادىء نور قمره وقطف نجومه وهرب منزوياً في شقٍ آخر..كانت تعرف وفاءه فحتماً سوف يأتي إليها بشوق عند المغيب..امتدت أناملها الدافئة مرة أخرى لتسحب ما انساب منها بسمو وتعيده إلى مكانه وفي آنٍ موازي لتعيد ذكراه التي لم تنضب.. أقسمت بأنها لن تغير لونه وكيف تفعل وعشقهما سرمدي منذ الصبا!! خرجت على عجل على غير عادتها قبل أن يهبط المساء إلى تلك البحيرة لم يكن سواها تناظر عمقها وقد كانت في تلك اللحظة أسارير وجهها متسعة لمزيد من الفرح وهي تحدق بنضاره في ذلك القرص المستدير من وجه الشمس عند الغروب..كان عرساً جميلاً لخيول تعشق الشفق وكان حقلاً زاهراً جرت فيه مراسم عرس رائع.. ارتمى ذلك اللون البرتقالي بخجل في مياه ساكنة من تلك البحيرة.. داعبت موجة برد حسها الرهيف عندما رأته قادم وتوشحت لونه.. لفها سكونه وتبعثرت في عنق صمته نجومه التي احتستها انغام ضوء قمره فعادت شفتيها ترسم كلماته وتسلل الدفء إلى حيث ما فقدت فجاءت آهاتها مكلومة وهي تنصهر مجدداً في بوتقته على شرفة عرس يختال بخمائله على العشب الأخضر.. كانت لوحة جميلة من سرور غامر فجميع تلك الحمائم البيضاء التي تحمل أغصان الزيتون كانت مدعوة وأهازيج زقزقة العصافير تطرب الآذان التي كانت لفحات بردها اللطيف تدغدغ عواطفها.. عطاء بلا حدود ومناجاة تتهجى بصدرٍ رحب كل مافي ذاكرتها التأملية بأوراق متناثرة على أرضيته وسمائه..لقد أقبل الليل وكم هي تعشقه حتى الثُمالة.. لقد أقبل لكي ينبت الومض وتنطفىء العتمة ويبوح الصهيل على ثرثرة الضفائر وأشذاء الزهر!! على نبض أحلامٍ تشتهي عبق المروجِ ونشوة الروض للنسيم وتحلم بالمطر! تحلم برجاءٍ شفيف ينسجه وحي القدر !!!