الكاتب : أ.د محمد احمد بصنوي
في قلب التفاعلات الجيوسياسية المُعقدة في الشرق الأوسط، وبالأخص القضية الفلسطينية تنمو شبكات نفوذ خفية، تمتد آثارها إلى أبعد من حدود المنطقة، لتطال القرار العالمي وتوجه مسارات الرأي العام في العديد من الدول، هذه الكيانات، سواء كانت شبكات غير رسمية من النخب الاقتصادية والسياسية، أو جماعات ضغط ذات نفوذ هائل، أو حتى مؤسسات بحثية واستشارية تعمل في الخفاء، تمارس تأثيرًا عميقًا على مسار الأحداث العالمية، وتوجه بوصلة الرأي العام نحو أهدافه معينة.
يتجلى تأثير هذه الشبكات بوضوح في مواقف الدول الكبرى، تجاه قضايا الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال، يمكن ملاحظة وجود دعم قوي ومستمر لدولة الإحتلال بصورة قد تتجاوز في كثير من الأحيان المصالح الاستراتيجية المباشرة لتلك الدول الكبرى، هذا الدعم غالبًا ما يكون مدفوعًا بجهود حثيثة من جماعات ضغط تعمل في الخفاء، حيث تستثمر هذه الجماعات موارد كبيرة، للتأثير على السياسيين وصناع القرار، فهناك دراسة لمؤسسة "OpenSecrets" في الولايات المتحدة كشفت أن جماعات الضغط العاملة في مجال السياسة الخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط غالبًا ما تكون مدعومة من جهات ذات مصالح راسخة في المنطقة، وتسعى للتأثير على التشريعات والمواقف الحكومية، عن طريق تقديم التمويل للحملات الإنتخابية، وتنظيم اللقاءات مع المسؤولين، وتقديم "تحليلات" تدعم وجهات نظرها.
ليس هذا فقط، بل إن المؤسسات الفكرية ومراكز الأبحاث الكبرى التي تلعب دورًا هامًا في تشكيل الخطاب السياسي وصنع القرار، والتي تبدو في ظاهرها مستقلة تتلقى تمويلًا مما يمكن أن نطلق عليه "عقول الظل"، فهناك تقرير لصحيفة "The Guardian" عام 2016 أشار إلى أن العديد من مراكز الأبحاث المؤثرة في واشنطن تتلقى تمويلًا من منظمات ذات مصالح محددة في المنطقة، مما يؤثر على طبيعة الأبحاث والتوصيات المقدمة من هذه المراكز أو المؤسسات، بالإضافة إلى ذلك، فالعلاقات الشخصية والشبكات غير الرسمية بين النخب السياسية والإقتصادية تلعب دورًا لا يقل أهمية في التأثير، حيث يتم تنظيم اجتماعات سرية ومنتديات مُغلقة قد توفر منصات لتبادل الآراء والتأثير على التوجهات السياسية والإقتصادية المتعلقة بالمنطقة.
لا يقتصر تأثير "عقول الظل" على صناعة القرار السياسي فحسب، بل يمتد ليشمل تشكيل الرأي العام وتوجيهه في الدول الغربية من خلال استخدام أدوات متنوعة لتحقيق هذا الهدف، فهذه الكيانات تستثمر في وسائل الإعلام بصورة ضخمة، لضمان تغطية إخبارية تتماشى مع تحقيق مصالحها، وهذا واضح من انحياز وسائل الإعلام الغربية للراوية الإسرائيلية في الحرب على قطاع غزة ، وتصوير الجانب الفلسطيني على أنه المعتدي وليس العكس، وغالبًا ما يتم تقديم العمليات العسكرية الإسرائيلية كرد فعل مباشر على أفعال حماس، مع إغفال أو تهميش السياق الأوسع للصراع، بما في ذلك الإحتلال الإسرائيلي والمجازر التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني، والحصار المفروض على غزة، وما يؤكد ذلك تقرير مركز مراقبة الإعلام (CfMM) في المملكة المتحدة (مارس 2024) الذي حلل التغطية الإعلامية البريطانية للحرب على غزة ووجد انحيازًا كبيرًا لصالح الرواية الإسرائيلية، و أشار التقرير إلى أن وسائل الإعلام استخدمت لغة عاطفية لوصف الإسرائيليين كضحايا أكثر بـ 11 مرة من الفلسطينيين، وأن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" تم ترويجه بشكل كبير يفوق حقوق الفلسطينيين بنسبة 5 إلى 1، كما وجد التقرير أن وجهات النظر الإسرائيلية تم الإستشهاد بها في التلفزيون أكثر بثلاث مرات تقريبًا من وجهات النظر الفلسطينية.
هناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى تأثير هذه الكيانات "عقول الظل"مثل الدعم السياسي والإعلامي غير المشروط لجرائم دولة الإحتلال على الرغم من الإنتقادات الدولية الواسعة لسجلاتها في مجال حقوق الإنسان أو سياساتها، والتغطية الإعلامية المتحيزة للنزاعات في المنطقة، والتي غالبًا ما تقدم رواية أحادية الجانب وتتجاهل سياقات تاريخية واجتماعية معقدة، وتبني بعض الحكومات الغربية لمواقف وسياسات تجاه المنطقة تتعارض مع مصالحها المعلنة، ولكنها تتماشى مع أجندات قوى نفوذ معينة.
وأخيرًا وليس آخرًا، ففي هذا المقال حاولنا أن نجيب على السؤال الأصعب الذي يُبادر إلى ذهن الكثير، ولا يجد له إجابة وهو: لماذا كل هذا الدعم الهائل لدولة الإحتلال من أمريكا والغرب، رغم أن مصالح الغرب تبدو مع دول المنطقة أكثر من دولة الإحتلال؟ فقد يعتقد البعض أن ما يحدث محض صدفة أو نتيجة لتطور طبيعي في العلاقات الدولية، لكن نظرة فاحصة تكشف أن ما نشهده هو نتاج تخطيط طويل المدى، من قِبل "عقول الظل" التي لا تعترف بالحدود، ولا تؤمن بمبدأ العدالة للجميع، بل تسعى لتكريس واقع يضمن لها السيطرة المطلقة.