من اختيار - أ/احمد المدير
تزوج بدوي فتاة من قبيلته ذات حسن وأدب وأخلاق ودين ، ومضى عام على زواجه ، ونشبت بينه وبين أحد أبناء عمومته مشاجرة كبيرة ، فقتله ، ورحل مع زوجته بعيداً عن الديرة كما تقتضيه الأعراف القبلية ، وتوجه إلى ديار قبيلة ثانية ، وكان صاحبنا دائم الجلوس عند الشيخ في مجلسه مثله مثل رجال القبيلة للسمر وتدارس مختلف الأمور ، وفي أحد الايام مر الشيخ من أمام بيت صاحبنا ، وشاهد زوجته فسُحِر بجمالها ، واستولت على قلبه وعقله ، وخطرت له فكره شيطانية ، وهي أن يبعد الزوج عن البيت ، لينفرد بالزوجة ، ويقضي منها وطرا ً .
فعاد إلى مجلسه ، وكان عامرا ً بالرجال ومن بينهم صاحبنا .
فقال : ربعي ! علمت أن الديرة الفلانية فيها ربيع ما مثله ! وأريد أن ارسل إليها أربعة رجال يرودونها ، ويتأكدون من الربيع فيها ، واختار أربعة من الرجال ومن بينهم زوج المرأه الجميلة ، فسار الأربعة بكل طيب خاطر ، والمكان الذي ذكره يستغرق ثلاث ايام ذهاب الفرسان وإيابهم ، وعندما ارخى الليل سدوله وانتظر إلى أن تنام الناس ، سار إلى بيت جيرانه حيث لم يكن فيه سوى المرأه وحيدة ، وكانت نائمة ، وقبل أن يصل ارتطم في العامود واحدث صوتاً مرعبا ً لها ، افاقت المرأه على الصوت .
صاحت : من بالبيت ؟!
قال الشيخ : أنا فلان شيخ العرب مضيفكم و انتم نازلين عنده !
قالت البدوية : حياك الله ! وماذا تريد يا شيخ العرب في مثل هذا الوقت ؟!
الشيخ أذهلني جمالك عندما رأيتك ، وسلبت عقلي وقلبي مني ، وأريد قربك ووصالك !
ردت البدوية : لا مانع عندي ! بشرط ، عندي لغز، إذا حليته أكون لك كما تريد !
الشيخ : أشرطي وتشرَّطي ، وجميع شروطك مُجابة !
قالت البدوية : حتى لايجيف اللحم ( أي يتحول إلى جيفة ) يرشون عليه الملح ! فمن يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟! ولك أن تستعين بمن تريد ، فإذا جئتني بالحل صرت لك كما تريد !
قال الشيخ : أنصفتِ ، وسآتيك بالحل في الليلة القادمة !
ذهب الشيخ إلى بيته بخفي حنين ، وأمضى ليلة يفكر بحل اللغز ولم يصل إلى نتيجة ، وثاني يوم كان الرجال جالسين في مجلسه .
سأل الشيخ الجالسين وبصورة مفاجأة : حتى لايجيف اللحم يرشون عليه الملح ! من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
وكل من رد من الحضور كان رده على قدر فهمه وعلمه ، فلم يقتنع الشيخ برأي واحد منهم ، وكان أحد الرجال المحنكين الدهاة أصحاب الفطنة والحكمة والعلم والأدب والدين موجودا ً في المجلس ، لكنه لم يقل شيئا ، وانصرف جميع من في المجلس إلا هو لم ينصرف ، فقد بقي في المجلس .
فصاح الشيخ في وجهه : أنت ما جاوبت على سؤالي !
قال له الرجل : أردت أن أكلمك على إنفراد ! فأصل اللغز بيت من الشعر قاله أمير أهل الحديث وهو أبو سفيان الثوري ، وبيت الشعر هو :
يا رجال العلم يا ملح البلد *** من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
وإن لم يخب ظني فإنك ٌ راودت امرأة عالية المقام في الذكاء والعلم والدين والأدب عن نفسها ، فأرادت أن تصدك ولا تفضحك ، وأن تكسبك كأخ لها ولا تخسرك وتزيد إلى أعدائها أعداء أهلها عدوا بحجمك ومقامك ، وتحفظ بعلها إن غاب وإن حضر ، وقد قالت لك ما قالت ، وكأنها تريد أن تقول لك ولمن سمعك :
يا شيوخ العُرب يا ملح البلد *** من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد ؟!
فهي تقصد : إن الرجل من القبيلة إذا فسد أصلحه شيخ القبيلة كما يصلح الملحُ اللحم ! فمن يصلح الشيخ إذا الشيخ فسد ؟!
وكأن هذه الاجابة أيقظت ضميره النائم ، وقلبه الهائم ، وعقله الظالم ، وأصابه الخجل الشديد من فعلته الشنعاء ، وملأه الندم على ما كان منه المكائد والمفاسد !
وقال : أصبت كبد الحقيقة أيها المبجل ! فاستر عليَّ زلتي سترك الله في الدنيا والآخرة !
الفائدة :-
( جالس الحكماء ولا تجالس السفهاء فإن الحكماء عظماء )
قال تعالى:
*[ إنما يخشًى َاللهَ من عباده العلماءُ ]*
_