الكاتب /أ:ضيف الله الحازمي
وجدته يقرأ كتابا عن تاريخ العالم ، وكان في قمة الاكتئاب والبؤس ، يتمتم بكلام غير مفهوم وهو يقلب صفحات ذلك الكتاب فقلت له مابك؟ تتمتم وتهذي بمالا يُفهم من الكلام فرفع رأسه وقال :
ماذا بقي للاذكياء حتى يفسدوه في هذا العالم أكثر مما فعلوا.
فقلت كيف؟
فقال ألم تفسدوا العالم؟
فقلت من تقصد؟
قال أنتم.. من تسمون أنفسكم (الأذكياء) .
فقلت طالما هم أهل إفساد فلست منهم.
وكنت أضاحكه هربا من حدة كلامه.
فقال :مامر الذكاء بمكان أو زمان إلا وأحدث صدمة في محيط الزمان والمكان بأكثر مما أضاف للحياة.
ثم استرسل مضيفا..
اخترع الإنسان العجلة لمضاعفة السرعة ، ثم زود بها عربات القتال ليدك مدن وأقاليم الأقل قوة ، وليستبيح كل كائنات البر ، وماكائنات البحر والجو ببعيد عن نفس المصير بما توصلتم إليه أيها الأذكياء من مبتكرات السفن والطائرات وأساليب الصيد الجائر والعبث بكل البيئات فقط ليكون الفراء على أبدانكم وعواتق حبيباتكم ولتكون رؤس الظباء والدببة والذئاب على جدران مجالسكم ، ولتفتخروا بآلات صيدكم وماقتلت وأفنت من حياةٍ حد الانقراض للكثير من الكائنات ..
فقلت له :
ستبقى إسهامات الذكاء أكثر من سقطات الأذكياء عبر التاريخ.
فقال: -وهو يجعل كل مثالب الأذكياء مختصرة في "شخصي" بعد أن استحضرهم دفعة واحدة واستحضر معهم كل تراث الألم الذي يحمله وكل الضغينة التي يختزنها تجاههم-تتصورون انكم أثريتم الحياة والحقيقة أنكم استدرجتم الأحياء بألاعيبكم ومبتكراتكم فأقبلوا عليكم بكل شغف وكان في ذلك حتفهم ، وماعليك سوى النظر حولك وستجد ألف دليل ودليل حتى ما اخترعتموه لشفاء البشر كان فيه هلاكهم فهاهي مستهلكات الأدوية والفيتامينات وقد اورثتنا من الأمراض مالم يعرف أسلافنا وإذا نظرت لتلك المواصلات التي أخذتمونا بواسطتها في جولة سريعة حول العالم فجلبنا لكل بقعة وصلنا إليها التلوث والضجيج ومزيد هدر الموارد ، ووصلت مبتكراتكم لأعلى المستويات ومع هذا لم تتراجع الفاقة بل زاد جوع الجائعين وفقر الفقراء ، وفي زاوية أخرى أغرقتم سوق الأسلحة بالجحيم ، وتم القفز على قوانين بيعها وتداولها فخاض العالم حروب الفناء..
ثم رفع وتيرة صوته ووجه الكلام إلي بكل غضب وهو يقول عن أي ذكاء وعن أي منجز تتحدث ، ثم قال ياصديقي مشكلتكم انكم طوع لمن غلب منكم فأنتم جلادون إن ساسكم جلاد ، وإن كان المال قائدكم سحقتم كل من دونكم من الفقراء ، وإن كانت الثقافة اللواء الذي تحملونه أقصيتم كل من عداكم ، وجهّلتم كل من يختلف معكم وإن كان الدين شفيعكم لأخذ المكانة والسلطنة أعملتم السيف في الرقاب وهكذا ماكانت لكم الصولة في جانب إلا وكان كل من في الجانب المختلف عنكم سوى ضحايا تكتسبون البقاء بإقصائهم وصولا لإخراجهم من معادلة الحياة الكريمة...
فقلت هناك فرق بين البطل والمجرم وبين المحنك الاقتصادي وبين التاجر الغشاش وبين المثقف الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه والإنسانية وغيره ممن جعل الثقافة وسيلة لتحقيق أغراضه ومراميه المرفوضة..
فقال أنتم تخادعوننا..
فقلت من انتم؟
فقال نحن الضحايا البسطاء الذين نريد الأوكسجين نظيفا من كل تلوث ، نريد ضوء الشمس بدون هياكل خرسانية تحجب عنا الضوء نريد أن يتسع العالم للحدائق والأزهار ، وليس لأسلحة الدمار ، نريد أن يمتلأ العالم بدور العلم وليس ساحات الصراع والدم..
أما أنتم فقد لبَّستم علينا وصورتم من يقوم بقتلنا بأنه البطل ، والكثير من النماذج التي تبجلونها في زوايا فخركم ، هم من الوجهة الأخرى كارثيون وربما يصل ببعضهم الأمر إلى الإجرام الذي ليس قبله ولابعده جرم..
وواصل حديثه المحتد وهو يقول ولايعني أنكم أسميتم الأشياء بغير أسمائها الحقيقية انكم قد أكسبتموها صورة الطهارة والنقاء فالبطل في زاوية "ما" هو طاغية في زاوية أخرى والاقتصادي العظيم هو محتكر للسلع وناشر للجوع بين الفقراء ، والمثقف عندكم هو من سوغ سحق الكثيرين بقصائده ونثره ، والمقدم في علوم الاجتماع هو من رسخ للعنصرية ونقاء بعض الاجناس عن بعضها ، وعباقرة الفلسفة عندكم هم من بنى المدن الفاضلة لأصحاب الحظوة وتناسى المساكين والضعفاء...
فقلت له لاتخلو الحياة من خطايا ولكن تبقى إسهامات الأذكياء استثنائية في الثقافة والعمران والاقتصاد وبناء الدول والحضارات ..
فقال نعم وآثارهم في القتل والدمار وسفك الدماء وامتهان الطفولة والإنسانية شاهدة عليكم وواصل هجومه المحموم فانسحبت من وابل كلامه ورضيت من الغنيمة بالإياب وبحثت عن أي واحة ليس للذكاء فيها مثال أو حضور لأبتني لي هناك نُزلا فلطالما عرفت أنني لست منهم مع أنني أكون سعيدا لو قالها أحدهم لي ولكنني اليوم خرجت وأنا اعتقد بأن الذكاء خطيئة تستحق الاستغفار...
فياترى أين أنت من الذكاء؟
وهل تراه خطيئة من الخطايا؟
أم هو مما ساعد البشر على عمارة الأرض وتحسين جودة الحياة...