الإِمْلاقْ ..
د . صلاح عبدالله العرابي
ملامح مُجَدَّرة وعيون مغرورقة وجاحظة بالتعب الكبير مسامها يتباهى بالفشل وبالرغم من ذلك فخطوط ظلها لم تجود عليها يوماً بالحذر فقد حاول مكسوراً ومثقوباً أن يبتعد من مغبة صداه وقد ارتدى رداء فجره الشحيب حينما تأمل وهو في أحشاء ظلمته الحالكة ماقد يفوح من رائحة العطش ذلك السراب الباهت الغريب الذي يقوده إلى منحنيات أضواء جافة لاتعرف غير الوهم وصرير الذعر المرير.فقد أطرق برأسه ولم يعبأ بمرآة زمنه التي كان يجاورها وأبحر وهو في حالة هذيان نحو المجهول تارةً هنا وتارةً هناك .وضع الزمن أصابعه على جبهته الغليظة المعنَّقة فأخذت أعراض الخوف تبدو على محياه ودلفت به نحو مدينة الينابيع السحيقه تلك المدينة الهامسة بنرجسية ألوانها وعصبية مزاجها والثكلى بخيوط الفراق ومجاديف الضياع..جاءه صوت من أعماق الماضي التليد صداه معروف ولحنه مألوف وفكرته غامضة..أخذ يبحث في أغوار نفسه الذليلة عن تلك الفكرة التائهة علَّها تنير وجدانه وتبعده عن مالانهاية له ليتشبث بها ويتسلق عليها جدران الوحدة وشحوب الكآبة.. ظل طوال مسيرته الحالمة أسير نفسه الشقية فتولد عنده طموح الإنطواء وأخذه بعيداً عن عالم المرئيات..بعيداً عن عالم المنطق الذي يموت ولايرثي الضمير الصامد بالفضيلة والبهاء..أخذ ينظر مرة أخرى إلى المرآة المنسدلة أمامه وفجأة وجد نفسه يشدها إليه بعنفوان الرجاء وأخذ يُقَبِّل هامته الصامتة من خلالها وبدأت شرفات العيون في الهطول على الوجنتين الشاحبتين العاريتين اللتين كساهما الزمن انخفاضاته وجردهما من تورد التفاح واحمرار الشفق.. قد تكون هذه اللحظة أقسى لحظات عمره لأنها لحظة انصهار في انتظار مافي الغيب و تيقظ السريرة ولكن هيهات له ان يتحسر والنفس مُكتظة بشتى ضروب الأسى وفي سراديب نفسه يفتقد التوازن في الألحان حيث أصبحت بلاطعم والكلمات ميتة والفكرة مازالت غير جليّة لقد غاص في حقيقة نفسه وأبحر وجدانه حتى تعدى مايرغبه فباءت محاولاته بالنكسةِ والهزيمة فبدل أن يُخرج منها اللؤلؤة السوداء أخرج عدة شعب مرجانية باهتة اللون ليس لها قيمة حتى لما في البحر من مخلوقات. لقد عاش لنفسه ولم يعبأ بالآخرين.. أخذ الأنا شعاراً مُتشبعاً به فبدأ مترجلاً ثم مهرولاً ثم منطلقاً عبر منحدرات الزمن وأودية الحياة اللانهائية.لقد أوهنته متاعب الرحلة فتصاعد لهاثه وأصيب بدوار الأرض فأخذت خطواته في القصور فرحَّب بصخرةٍ على مقربةٍ من نهاية الطريق وجعلها فراشاً وثيراً له وألتفت حيث كانت تسير أقدامه وبدأ ينظر إلى خطواته التي عَفَّى عليها الزمن وإلى طريقه المُتَّشِحْ بظلمة الغربان ووحشة الضفادع فانطلقت منه حينذاك قهقهات الهباء على مافات فأبحر إلى الغموض عبر مقصلة الألم وفجأة بدأت مسالك جسمه المُنهك في الذبول فسقطت مرآة الزمن من بين يديه لتغيب بللوراتها كالشعاع العابر والضئيل حيث رأى نفسه على حقيقتها جائرة حائرة ضريرة ظامئة تبحث دون هدى عن الظلال في هجير الرمال فحاول عبثاً أن يجمع أجزائها ولكن كيف يحتويها وهي منتحرة في غياهب التعب الدافىء النابض بالدوار المُرهق! والفكرة مازالت غامضة تبدو وكأنها من دنيا النسيان فتكاثرت عليها خطوات الظمأ الصامت في حظائر الأشباح ولكن هيهات ينفع الندم وخريف النفس تمتد خاصرته بشتى سُحُنات التأوه والنكد إلى مالاحد له تمتد إلى الوراء لتسأل بحنين مرتعش وذهول غائم عن ماتبقى من شذى الزهر وهو يترنح مابين الشقاء في عيون السفر وبين الموت وهو يعبر من نافذة الضجر وهو يعبر وصدى نبضه مابين قبرٍ وحجر مابين كفنٍ باكي وصيرورة قدر.. مابين إملاقٍ لضميرٍ نقي يحتوي هموم البشر !!!